اختتمت الدورة السادسة والأربعون من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في مسرح أوبرا القاهرة بحفل ختامي تحت شعار الذاكرة ومسؤولية السينما. افتتحت الأمسية بصورة الطفلة هند رجب، مصحوبة بتسجيل صوتها. هذه النداءات التي سمعها العالم بأسره: صوت طفلة فلسطينية من غزة، طلبت المساعدة لمدة ثلاث ساعات بعد أن رأت أفراد عائلتها يُقتلون أمام عينيها على يد الجيش الإسرائيلي، قبل أن تُقتل هي نفسها. لم تكن تتجاوز الست سنوات.
صعد رئيس المهرجان، حسين فهمي، إلى المسرح ليذكر أن ما سمعه الجمهور قد يبدو للوهلة الأولى مشهداً سينمائياً، لكنه في الواقع حقيقة مأساوية. وأكد أن قوة السينما تكمن في قدرتها على توثيق وحفظ القصص الحقيقية ومنع محوها، مهما كانت الجهود لتجاهلها. وأشار إلى أن هند، وقصتها وصوتها ستظل حاضرة، وأن الأطفال الذين يشبهونها ليسوا أرقاماً، بل بشر من لحم ودم.
أعرب حسين فهمي عن سعادته بأن يكون فيلم الختام لهذه الدورة السادسة والأربعين هو “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية، وهو فيلم يعود تحديداً إلى هذا النداء، وظروف وفاة الطفلة وكيف تم تسجيل هذا اللحظة ونشرها. هذا الاختيار للختام يؤكد رغبة المهرجان في وضع مسألة الذاكرة والشهادة في المركز.
في بقية خطابه، تطرق إلى الجوانب المختلفة لهذه الدورة: الأفلام المتنافسة، الأفلام المستعادة التي تجذب دائماً جمهوراً كبيراً، الورشات، الدروس الرئيسية، وكذلك سوق الفيلم الذي جمع العديد من المحترفين. شكر المؤسسات المصرية التي دعمت هذه الدورة، خاصة وزارة الثقافة برئاسة الدكتور أحمد فؤاد حناوي، وكذلك الوزارات الأخرى المعنية، الهيئة المصرية للسياحة، محافظة القاهرة والأوبرا المصرية. وأخيراً هنأ الشعب القطري على إطلاق مهرجان الدوحة وأعلن عن توقيع اتفاقية تعاون بين مهرجان القاهرة ومدينة قطر للإعلام، تهدف إلى تطوير تعاون استراتيجي حول إنتاج وتداول الأفلام العربية.
قبل الإعلان عن القائمة وتوزيع الجوائز، تم تكريم عدة شخصيات بارزة في السينما الدولية والمصرية. تم تكريم المخرج الصيني غوان هو عن مجمل مسيرته ومساهمته في إشعاع السينما الآسيوية المعاصرة. كما حصلت المخرجة المجرية إيلديكو إينيدي، التي قدمت درساً رئيسياً مميزاً خلال هذه الدورة، على تكريم خاص، مشيداً بعمل فريد ومتجذر بعمق في التفكير حول الهوية والنظرة. كما تم تكريم مدير التصوير المصري محمود عبد السميع عن مجمل مسيرته. في الخطاب الذي ألقاه بهذه المناسبة، تحدث عن التزامه بالحفاظ على التراث السينمائي المصري وأعلن أن هناك مناقشات جارية لافتتاح متحف للسينما في مصر في السنوات القادمة، وهو مشروع يتابعه عن كثب.
بعد وضع هذا الإطار، تواصلت الحفل مع الإعلان عن القائمة.
في المسابقة الدولية، برئاسة نوري بيلج جيلان، مع بسمة، بوغدان موريسانو، جوان هو، نادين خان، سيمونا باجي وليلى بوزيد، تم منح الهرم الذهبي لأفضل فيلم لـ “اليعسوب” لبول أندرو ويليامز. تم منح جائزة أفضل أداء نسائي بالتساوي للممثلتين الرئيسيتين في هذا الفيلم، أندريا رايزبورو وبريندا أندرو ويليامز. عادت جائزة الهرم الفضي لأفضل مخرج للأخوين طرزان وعرب ناصر عن “كان يا ما كان في غزة”، بينما حصل ماجد عيد على جائزة أفضل ممثل عن نفس الفيلم. كما حصل “كان يا ما كان في غزة” على جائزة أفضل فيلم عربي طويل، مما يرفع عدد الجوائز التي حصل عليها هذا العنوان في القاهرة إلى ثلاثة.
“كان يا ما كان في غزة”، إنتاج مشترك بين فرنسا، فلسطين، ألمانيا، البرتغال، قطر والأردن، تدور أحداثه في غزة عام 2007. يتابع الفيلم يحيى، طالب، وأسامة، تاجر مخدرات طيب القلب، اللذين يجدان نفسيهما شريكين ويبيعان المخدرات من مطعم فلافل. نشاطهما يضعهما في مواجهة مع شرطي فاسد ومتعجرف، وتتراكم الضغوط تدريجياً، حتى تظهر هشاشة الروابط، وعنف علاقات السلطة وصعوبة ظروف الحياة في مجتمع يعاني من أزمة. كان الفيلم قد عرض لأول مرة في كان، حيث حصل بالفعل على جائزة الإخراج، قبل أن يصل إلى القاهرة مع هذا المسار الذي بدأ بالفعل.
تم منح الهرم البرونزي، جائزة خاصة من لجنة التحكيم، لفيلم “كما نتنفس” للمخرج سيموس ألتون.
تم منح جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو لفيلم “الأشياء التي تقتلها” لعلي رضا خاتمي. هذا الفيلم (تركيا، كندا، فرنسا، بولندا، 2025، 113 دقيقة)، الذي تم اختياره في المسابقة الدولية وقدمته كندا لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، يتابع علي، أستاذ الأدب الذي استقر في تركيا بعد سنوات قضاها في الولايات المتحدة. وفاة والدته تجبره على العودة إلى المنزل العائلي وتعيد إلى السطح طفولة تميزت بأب مستبد وأم صامتة. وصول رضا، بستاني يعينه علي، يضيف اضطراباً إضافياً: هذا الرجل يصبح تدريجياً كاشفاً للمناطق المظلمة في تاريخه. يتقدم الفيلم من خلال الذكريات، الأشياء، الإيماءات والصمت، لاستجواب النسب، الذنب، نقل العنف والخوف من تكراره في اللحظة التي يحاول فيها علي أن يصبح أباً بدوره. بالإضافة إلى جائزة السيناريو، حصل “الأشياء التي تقتلها” أيضاً على جائزة فيبريسي للنقد الدولي، مما يجعله أحد أكثر الأفلام تميزاً في هذه الدورة.
تم منح جائزة هنري بركات لأفضل مساهمة فنية لتصوير فيلم “مدينة الرمل”، الذي وقعه ماثيو جيو مبيني.
في قسم آفاق السينما العربية، منحت لجنة التحكيم المكونة من عبد السلام موسى، نادية درستي وكريم أيتونة جائزة أفضل سيناريو للفيلم الجميل “الشكوى رقم 713317” لياسر شفيعي، وهو أول فيلم طويل له. ذهبت جائزة صلاح أبو سيف، جائزة خاصة من لجنة التحكيم، لفيلم “ضد السينما” للمخرج علي سعيد. حصلت الجائزة الكبرى سعد الدين وهبة لأفضل فيلم عربي على فيلم “كلب ساكن” للمخرجة اللبنانية سارة فرانسيس.
تم منح جائزة أفضل أداء نسائي في هذا القسم لعفاف بن محمود عن دورها في فيلم “الجولة 13” لمحمد علي النهدي. يصل الفيلم إلى القاهرة مباشرة بعد مشاركته في مهرجان تالين. يتابع الفيلم عائلة تونسية تواجه مرض طفل ويستكشف، من خلال هذا النواة العائلية، الألم، الكرامة وثقل الصعوبات الاجتماعية التي تضاف إلى المحنة الشخصية. في هذا الإطار، تجسد عفاف بن محمود دور أم تواجه وضعاً يتجاوز قدراتها، بين القلق، المسؤولية والإرهاق. يركز الفيلم على الإيماءات اليومية، النظرات، التوتر الذي يتسلل إلى داخل العائلة، ومن هنا يبني الدور الذي حصلت بفضله على هذه الجائزة.
من جانب الوثائقيات، أعلن مهرجان القاهرة عن فوز فيلم “سوريا حبي” لنيكولاس خوري. هذا الفيلم اللبناني القطري، باللغة العربية، ومدته 81 دقيقة، يغوص في عالم الفنانة سوريا بغدادي ويعود إلى العلاقة التي كانت تربطها بزوجها، المخرج مارون بغدادي، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على وفاته. يبنى الوثائقي من مقتطفات من “حروب صغيرة” (1982)، حيث صور مارون بغدادي لقائهما الأول، وكذلك من أرشيفات شخصية ومقابلات. يهتم الفيلم بشكل خاص بعلاقة سوريا بجسدها بعد سنوات من الرقص والتأمل، ويتساءل عن كيفية نسج الحداد والذاكرة عبر الزمن.
تم منح جائزة الجمهور يوسف شريف رزق الله، بقيمة 15,000 دولار، لفيلم “عرض آخر” لماي سعد وأحمد الدنف. تدور أحداث الفيلم في قلب الدمار في غزة ويتابع فرقة سيرك غزة الحرة – يوسف، بطوط، إسماعيل، محمد وجست – التي اضطرت للانتقال من شمال غزة إلى الجنوب. رغم الأنقاض، يواصل هؤلاء الفنانون تقديم عروضهم للأطفال في الملاجئ وفي الشوارع، محولين عروضهم إلى فعل مقاومة وإيماءة عزاء.
تم منح جائزة نيتباك لأفضل فيلم آسيوي لفيلم “البستاني” لجينغ يي، في إطار التزام المهرجان بتعزيز رؤية السينمات الآسيوية.
في مسابقة الأفلام القصيرة، برئاسة المخرجة التايلاندية بوم بونسيرفيتشا، مع الممثلة المصرية تارا عماد والمخرج السويسري أنس سارين، تم منح جائزة يوسف شاهين لأفضل فيلم قصير لفيلم “شوارع القاهرة” للمخرج عبد الله الطيعة. عادت جائزة أفضل فيلم عربي قصير لفيلم “تيتا وتيتا” للمخرجة لين الصافح، وحصلت جائزة خاصة من لجنة التحكيم على فيلم “رقبة مستقيمة جداً” لني سورا.
وسط قائمة كثيفة وغنية، يبقى نقص واضح: فيلم “كال مالاغا” لمريم التوزاني يغادر دون أي جائزة. منذ عرضه، لم يتوقف النقاد والمشاهدون عن الحديث عنه بعبارات مديح، واصفين إياه بأنه فيلم جميل جداً، وملحمة حقيقية للحياة ومزيج من المشاعر. غيابه عن القائمة أثار العديد من التعليقات عند خروج الحفل وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث حاول الجميع فهم وتفسير هذا الغياب، الفيلم يجيب على جميع المعايير للفوز بكل هذه الجوائز: سيناريو جميل جداً، إخراج جميل وأداء رائع من قبل الممثلة الرئيسية كارمن ماورا، دون أن ننسى الألوان، دفء الفيلم، الصور الجميلة…
اختتمت الأمسية بعرض فيلم “صوت هند رجب”، مؤكدة على الخيط الواصل لهذا الختام: مهرجان يتجاوز الجوائز، يستجوب الطريقة التي يحتفظ بها السينما بأثر الأصوات، الوجوه والقصص التي قد نميل بسهولة إلى تركها تختفي.
نقاش حول هذا المنشور