توفيت الممثلة العالمية كلوديا كاردينال، المولودة في 15 أبريل 1938 في تونس، عن عمر يناهز 86 عاماً، تاركة وراءها إرثاً سينمائياً استثنائياً وبصمة خالدة في قلوب محبيها حول العالم. ابنة مهاجرين صقليين، نشأت في حي حلق الوادي متعدد الثقافات، حيث التقت الثقافات العربية واليهودية والأوروبية، ما شكّل هويتها المتوسطية الفريدة. كانت ذكرياتها الأولى مليئة بأزقة المدينة الملونة وأسواقها النابضة بالحياة وبحر المتوسط الذي شكّل خلفية طفولتها، عناصر أثرت لاحقاً على إحساسها بالجمال وحسها الفني.
بدأت علاقتها بالسينما عام 1956، عندما شاركت مع زملائها في المدرسة في الفيلم القصير للمخرج الفرنسي رينيه فوتييه الخواتم الذهبية، الذي تناول موضوع الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي لتونس. عرض الفيلم لاحقاً في مهرجان برلين السينمائي 1958، حيث حصل على الدب الفضي. كانت لقطة واحدة لها بدور فتاة عربية صغيرة كافية لجعلها معروفة محلياً، وجذبت انتباه المخرج جاك باراتييه الذي منحها دوراً صغيراً إلى جانب عمر الشريف في فيلم جحا، إنتاج فرنسي-تونسّي. عُرض جحا ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان 1958، حيث فاز بجائزة «النظرة الأولى – نظرة ما» بالتساوي مع فيلم وجوه برونزية لبرنارد تايسان. وعادت كلوديا إلى كان في 2013 مع نسخة مرممة من الفيلم ضمن قسم كلاسيكيات كان، لتؤكد الطابع الخالد لبداياتها.
بعد استقلال تونس، وفي عام 1957، تم انتخاب كلوديا «أجمل إيطالية في تونس»، مما منحها رحلة إلى مهرجان البندقية السينمائي واكتشاف حيوية السينما العالمية. هناك التقت فرانكو كريستالدي، الذي أصبح لاحقاً مرشدها وزوجها، وساعدها على الحصول على أول عقودها السينمائية في إيطاليا، مما مهد الطريق لمسيرة دولية استثنائية.
خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أصبحت كلوديا واحدة من أبرز نجمات السينما الأوروبية. تعاونت مع لوتشينو فيسكونتي في الفقمة (1963) حيث جسدت شخصية كونشيتا، مع فيديريكو فلليني في 8½ (1963) وظهرت في الغرب الأمريكي الشهير كان يا مكان في الغرب (1968) لسيرجيو ليون بدور جيل مكباين، الذي أصبح أيقونيًا، كما أبدعت مع جان-لوك غودار في امرأة هي امرأة وميشيلانجيلو أنطونيووني في الصحراء الحمراء. كما تركت بصمة لا تُنسى في فيلم النظرية لبيير باولو بازوليني. هذه الأعمال رسخت مكانتها كرمز سينمائي عالمي وحصدت لها العديد من الجوائز والتكريمات.
بعد السبعينيات، واصلت كلوديا مسيرتها السينمائية في أوروبا وأمريكا، مستكشفة أنماطاً وأدواراً جديدة، من الكوميديا إلى الدراما العميقة، محافظًة على أناقتها الطبيعية وفرادتها الفنية، بما في ذلك مشاركتها في فيلم ذات مرة في أمريكا (1984) لسيرجيو ليون، الذي أكّد التزامها بالمشاريع الطموحة.
ظل ارتباطها بتونس محورياً طوال حياتها. فقد عادت بانتظام إلى مدينتها الأم، وشاركت في أفلام تونسية مهمة، مثل صيف حلق الوادي لفيريد بوغدير، الذي يكرّم تعددية الثقافات في المدينة، وفيلم الخيط لمهدي بن عطيّة (2009)، وفيلم جزيرة الغفران لرضا باهي (2022). وقد أصبح من القدر أن يكون أول فيلم لها في تونس الخواتم الذهبية وآخر فيلم لها جزيرة الغفران، ما يبرز الصلة العميقة بين بداياتها ونهاياتها السينمائية بوطنها الأم.
كما عبّرت عن حبها لتونس في كتابها تونسّي، حيث استحضرت ذكرياتها في حلق الوادي، وزياراتها لشواطئ قرطاج، وأزقة سيدي بوسعيد، وأسواق المدينة. وفي مايو 2022، كرّمت بلدية حلق الوادي مسيرتها عبر تسمية شارع باسمها، كما نُفّذ جدار ضخم يحمل صورتها، شهادة على تأثيرها ومحبة أهل المدينة لها.
بعيداً عن الفن، كانت كلوديا ناشطة في القضايا الاجتماعية والإنسانية، مدافعة عن حقوق المرأة، ومستفيدة من شهرتها لدعم المساواة والعدالة الاجتماعية. لقد تركت أناقتها وكرمها وكاريزماها أثراً لا يُنسى، وستظل مصدر إلهام للأجيال القادمة.
تترك كلوديا كاردينال إرثاً سينمائياً متنوعاً، ومسيرة فريدة امتدت عبر القارات والعقود، وارتباطاً صادقاً بجذورها المتوسطية. سيبقى حبها لتونس وإسهاماتها السينمائية محفوراً في الذاكرة الجماعية، لتصبح أسطورة سينمائية وسفيرة حقيقية لوطنها. كل فيلم، وكل دور، وكل ذكرى شاركتها، يعكس شغفها بالفن وارتباطها العميق بجذورها، وهذا ما يحدد إرثها الاستثنائي.
نائلة إدريس
نقاش حول هذا المنشور